الرازي.. صاحب “المفاتيح” - هيثم أبو زيد
صفحة 1 من اصل 1 • شاطر
- الامام الربانيالاعضاء النشطاء
- عدد المساهمات : 129
تاريخ التسجيل : 06/05/2016
انتصف القرن السادس الهجري، لكن المعركة بين الأشعرية والمعتزلة مازالت تلقي بظلالها على الحياة الفكرية في ربوع العالم الإسلامي، فكان لها الأثر الأكبر على تفسير “مفاتيح الغيب” لمحمد بن عمر بن الحسن بن الحسين بن علي التيمي البكري الرازي الطبرستاني.. و”الرازي” نسبة إلى مدينة الري التي تقع قريبا من العاصمة الإيرانية طهران، وهي نسبة سماعية على غير قياس.
يكاد تفسير الرازي أن يكون كله مواجهة لأفكار المعتزلة وأصحاب الاتجاهات الفلسفية، ينتصر فيه صاحبه لموقف أبي حامد الغزالي، ومبادئ العقيدة الأشعرية، وفي سبيل هذه المواجهة حوى التفسير ألوانا من الردود لنصرة ما يعتبره المؤلف “طريقة القرآن” على الفلاسفة وأصحاب الرأي، موظفا درايته الكبيرة في علم الكلام، وقوته في علوم الحديث والعربية، فأكثر من الجدل والمناظرة إلى درجة دفعت بعض العلماء أن يقولوا إن كتاب مفاتيح الغيب ضم كل أصناف العلوم إلا التفسير، بينما قال عنه ابن خلكان “جمع فيه كل غريب وغريبة”.
كان الرازي يرى أن أفكار المعتزلة ساهمت في تعطيل إدراك الفهم الصحيح للقرآن، وأقامت حجبا كثيفة بين المسلمين ومعرفة مراد الله وحكمته المبثوثة في الآيات والسور، وكان يرى أن انشغال أصحاب الاعتزال بتحقيق أعاريب القرآن، ونكته البلاغية، والإفراط في التعامل النظري مع النص القرآني يقوم حائلا بينهم وبين الغوص العميق في المعاني القرآنية، والنهل من معينها الفياض.
وعن منهج الرازي في تفسيره، يقول مفتي تونس محمد الفاضل بن عاشور: “كانت الطريقة المثلى في نظره لإدراك ما في القرآن من أسرار حكيمة، وبث ما تضمنه من مطالب فلسفية وعلوم طبيعية إنما هي طريقته الكلامية المختارة، المتبعة لمنهج الغزالي، وإمام الحرمين، وأبي إسحاق الإسفراييني، والإمام أبي الحسن الأشعري…”.
وكان لكلام الرازي بشأن التفسير والمعتزلة دوي كبير، وانقسم الناس حول آرائه بين مؤيد ومعارض، فانبرى بنفسه يرد على المعترضين، ويبرهن على نظريته، ويقيم عليها الدلائل، ويضرب لها الأمثال، مؤكدا أن طريقة المعتزلة تحول بين الناس وبين فهم القرآن، وبالغ في جداله كثيرا، حتى قال ذات يوم إن المسلمين يمكن أن يستخلصوا من سورة الفاتحة عشرة آلاف مسألة، فلما زاد تعجب الناس من كلامه، وزاد لجاجهم وجدلهم، قرر صاحب المفاتيح أن يبرهن عمليا على دعواه، فأقدم على وضع كتاب في تفسير فاتحة الكتاب، وصدره بمقدمات تبين منهجة، وتؤكد أنه يمكن استخلاص المسائل الكثيرة من الألفاظ القليلة.
وللتمثيل على منهجه، نسوق ما قرره عند قوله تعالى في سورة الفاتحة “رب العالمين”، حيث قال: “اعلم أن قوله: {رَبّ} مضاف وقوله: {العالمين} مضاف إليه، وإضافة الشيء إلى الشيء تمتنع معرفتها إلا بعد حصول العلم بالمتضايفين، فمن المحال حصول العلم بكونه تعالى ربا للعالمين إلا بعد معرفة رب والعالمين، ثم إن العالمين عبارة عن كل موجود سوى الله تعالى، وهي على ثلاثة أقسام: المتحيزات، والمفارقات، والصفات… ثبت بالدليل أنه حصل خارج العالم خلاء لا نهاية له، وثبت بالدليل أنه تعالى قادر على جميع الممكنات، فهو تعالى قادر على أن يخلق ألف ألف عالم خارج العالم، بحيث يكون كل واحد من تلك العوالم أعظم وأجسم من هذا العالم، ويحصل في كل واحد منها مثل ما حصل في هذا العالم من العرش والكرسي والسموات والأرضين والشمس والقمر، ودلائل الفلاسفة في إثبات أن العالم واحد دلائل ضعيفة ركيكة مبنية على مقدمات واهية…”
ويواصل الرازي: “معلوم أن البحث عن هذه الأقسام التي ذكرناها للمتحيزات مشتمل على ألوف ألوف من المسائل، بل الإنسان لو ترك الكل وأراد أن يحيط علمه بعجائب المعادن المتولدة في أرحام الجبال من الفلزات والأحجار الصافية وأنواع الكباريت والزرانيخ والأملاح، وأن يعرف عجائب أحوال النبات مع ما فيها من الأزهار والأنوار والثمار، وعجائب أقسام الحيوانات من البهائم والوحوش والطيور والحشرات لنفد عمره في أقل القليل من هذه المطالب، ولا ينتهي إلى غورها… وهي بأسرها وأجمعها داخلة تحت قوله: {رَبّ العالمين}”.
ولا ريب أن طريقة الرازي تحمل كثيرا من التكلف، وفي المثال المذكور آنفا نرى أن اللفظ قد استغرقه تماما، فالصلة بين ما أورده وبين عبارة “رب العالمين” لا تعدوا أن تكون صلة لفظية، فهو يتحدث عن العوالم المختلفة، بمناسبة لفظة “العالمين”، فهو أشبه بمن يحدثك بكلام طويل عن أحكام الزكاة، وقوانين الضرائب، وسياسات النقد لأنك ذكرت أمامه في حديثك لفظة “المال”.
يلقى تفسير مفاتيح الغيب حفاوة كبيرة من العلماء، وخطباء المساجد، لما يحويه من مادة ثرية، وفي المقابل، تواجهه التيارات السلفية، ومشايخ الوهابية بالصد والإعراض، باعتبار أن الرازي أشعري العقيدة، وأنه خالف أهل السنة في مسائل اعتقادية متعددة، وكالعادة، يبني الوهابيون موقفهم على ما قرره لهم ابن تيمية، الذي تصدى للرازي بالنقد والرد في كتابه “بيان تلبيس الجهمية”.
أما ابن حجر العسقلاني، فأخذ على الرازي توسعه في إيراد شبهة الخصم، مع تقاصره في الرد عليها، فقال في “لسان الميزان”: وكان يعاب بإيراد الشبهة الشديدة، ويقصر في حلها، حتى قال بعض المغاربة: يورد الشبهة نقدا ويحلها نسيئة.. وقال أيضا: “يورد شبهات المخالفين في المذهب والدين على غاية ما يكون من التحقيق، ثم يورد مذهب أهل السنة على غاية من الوهاء”.
المصدر : http://elbadil.com/2015/12/06/%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%A7%D8%B2%D9%8A-%D8%B5%D8%A7%D8%AD%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%81%D8%A7%D8%AA%D9%8A%D8%AD/
يكاد تفسير الرازي أن يكون كله مواجهة لأفكار المعتزلة وأصحاب الاتجاهات الفلسفية، ينتصر فيه صاحبه لموقف أبي حامد الغزالي، ومبادئ العقيدة الأشعرية، وفي سبيل هذه المواجهة حوى التفسير ألوانا من الردود لنصرة ما يعتبره المؤلف “طريقة القرآن” على الفلاسفة وأصحاب الرأي، موظفا درايته الكبيرة في علم الكلام، وقوته في علوم الحديث والعربية، فأكثر من الجدل والمناظرة إلى درجة دفعت بعض العلماء أن يقولوا إن كتاب مفاتيح الغيب ضم كل أصناف العلوم إلا التفسير، بينما قال عنه ابن خلكان “جمع فيه كل غريب وغريبة”.
كان الرازي يرى أن أفكار المعتزلة ساهمت في تعطيل إدراك الفهم الصحيح للقرآن، وأقامت حجبا كثيفة بين المسلمين ومعرفة مراد الله وحكمته المبثوثة في الآيات والسور، وكان يرى أن انشغال أصحاب الاعتزال بتحقيق أعاريب القرآن، ونكته البلاغية، والإفراط في التعامل النظري مع النص القرآني يقوم حائلا بينهم وبين الغوص العميق في المعاني القرآنية، والنهل من معينها الفياض.
وعن منهج الرازي في تفسيره، يقول مفتي تونس محمد الفاضل بن عاشور: “كانت الطريقة المثلى في نظره لإدراك ما في القرآن من أسرار حكيمة، وبث ما تضمنه من مطالب فلسفية وعلوم طبيعية إنما هي طريقته الكلامية المختارة، المتبعة لمنهج الغزالي، وإمام الحرمين، وأبي إسحاق الإسفراييني، والإمام أبي الحسن الأشعري…”.
وكان لكلام الرازي بشأن التفسير والمعتزلة دوي كبير، وانقسم الناس حول آرائه بين مؤيد ومعارض، فانبرى بنفسه يرد على المعترضين، ويبرهن على نظريته، ويقيم عليها الدلائل، ويضرب لها الأمثال، مؤكدا أن طريقة المعتزلة تحول بين الناس وبين فهم القرآن، وبالغ في جداله كثيرا، حتى قال ذات يوم إن المسلمين يمكن أن يستخلصوا من سورة الفاتحة عشرة آلاف مسألة، فلما زاد تعجب الناس من كلامه، وزاد لجاجهم وجدلهم، قرر صاحب المفاتيح أن يبرهن عمليا على دعواه، فأقدم على وضع كتاب في تفسير فاتحة الكتاب، وصدره بمقدمات تبين منهجة، وتؤكد أنه يمكن استخلاص المسائل الكثيرة من الألفاظ القليلة.
وللتمثيل على منهجه، نسوق ما قرره عند قوله تعالى في سورة الفاتحة “رب العالمين”، حيث قال: “اعلم أن قوله: {رَبّ} مضاف وقوله: {العالمين} مضاف إليه، وإضافة الشيء إلى الشيء تمتنع معرفتها إلا بعد حصول العلم بالمتضايفين، فمن المحال حصول العلم بكونه تعالى ربا للعالمين إلا بعد معرفة رب والعالمين، ثم إن العالمين عبارة عن كل موجود سوى الله تعالى، وهي على ثلاثة أقسام: المتحيزات، والمفارقات، والصفات… ثبت بالدليل أنه حصل خارج العالم خلاء لا نهاية له، وثبت بالدليل أنه تعالى قادر على جميع الممكنات، فهو تعالى قادر على أن يخلق ألف ألف عالم خارج العالم، بحيث يكون كل واحد من تلك العوالم أعظم وأجسم من هذا العالم، ويحصل في كل واحد منها مثل ما حصل في هذا العالم من العرش والكرسي والسموات والأرضين والشمس والقمر، ودلائل الفلاسفة في إثبات أن العالم واحد دلائل ضعيفة ركيكة مبنية على مقدمات واهية…”
ويواصل الرازي: “معلوم أن البحث عن هذه الأقسام التي ذكرناها للمتحيزات مشتمل على ألوف ألوف من المسائل، بل الإنسان لو ترك الكل وأراد أن يحيط علمه بعجائب المعادن المتولدة في أرحام الجبال من الفلزات والأحجار الصافية وأنواع الكباريت والزرانيخ والأملاح، وأن يعرف عجائب أحوال النبات مع ما فيها من الأزهار والأنوار والثمار، وعجائب أقسام الحيوانات من البهائم والوحوش والطيور والحشرات لنفد عمره في أقل القليل من هذه المطالب، ولا ينتهي إلى غورها… وهي بأسرها وأجمعها داخلة تحت قوله: {رَبّ العالمين}”.
ولا ريب أن طريقة الرازي تحمل كثيرا من التكلف، وفي المثال المذكور آنفا نرى أن اللفظ قد استغرقه تماما، فالصلة بين ما أورده وبين عبارة “رب العالمين” لا تعدوا أن تكون صلة لفظية، فهو يتحدث عن العوالم المختلفة، بمناسبة لفظة “العالمين”، فهو أشبه بمن يحدثك بكلام طويل عن أحكام الزكاة، وقوانين الضرائب، وسياسات النقد لأنك ذكرت أمامه في حديثك لفظة “المال”.
يلقى تفسير مفاتيح الغيب حفاوة كبيرة من العلماء، وخطباء المساجد، لما يحويه من مادة ثرية، وفي المقابل، تواجهه التيارات السلفية، ومشايخ الوهابية بالصد والإعراض، باعتبار أن الرازي أشعري العقيدة، وأنه خالف أهل السنة في مسائل اعتقادية متعددة، وكالعادة، يبني الوهابيون موقفهم على ما قرره لهم ابن تيمية، الذي تصدى للرازي بالنقد والرد في كتابه “بيان تلبيس الجهمية”.
أما ابن حجر العسقلاني، فأخذ على الرازي توسعه في إيراد شبهة الخصم، مع تقاصره في الرد عليها، فقال في “لسان الميزان”: وكان يعاب بإيراد الشبهة الشديدة، ويقصر في حلها، حتى قال بعض المغاربة: يورد الشبهة نقدا ويحلها نسيئة.. وقال أيضا: “يورد شبهات المخالفين في المذهب والدين على غاية ما يكون من التحقيق، ثم يورد مذهب أهل السنة على غاية من الوهاء”.
المصدر : http://elbadil.com/2015/12/06/%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%A7%D8%B2%D9%8A-%D8%B5%D8%A7%D8%AD%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%81%D8%A7%D8%AA%D9%8A%D8%AD/
مواضيع مماثلة
للمشاركة انت بحاجه الى تسجيل الدخول او التسجيل
يجب ان تعرف نفسك بتسجيل الدخول او بالاشتراك معنا للمشاركة
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى