لماذا تنازل الفقهاء عن سلطة الأمة لصالح المتغلب ؟ - بسام ناصر
صفحة 1 من اصل 1 • شاطر
- الامام الربانيالاعضاء النشطاء
- عدد المساهمات : 129
تاريخ التسجيل : 06/05/2016
من المقرر في الأحكام السلطانية اعتبار ولاية المتغلب ولاية شرعية، فجمهور فقهاء أهل السنة يلزمون الأمة بطاعة المتغلب، فهو عندهم إمام شرعي، تجب طاعته ويحرم الخروج عليه، ويمثلون لذلك بوقائع حدثت في بواكير التاريخ الإسلامي.
يقول الفقيه الحنبلي ابن قدامة المقدسي "ولو خرج رجل على الإمام فقهره وغلب الناس بسيفه حتى أقروا له وأذعنوا بطاعته وتابعوه، صار إماما يحرم قتاله، والخروج عليه، فإن عبد الملك بن مروان خرج على ابن الزبير، فقتله واستولى على البلاد وأهلها حتى بايعوه طوعا وكرها، فصار إماما يحرم الخروج عليه، وذلك لما في الخروج عليه من شق عصا المسلمين، وإراقة دمائهم وذهاب أموالهم".
لكن إضفاء الشرعية على ولاية المتغلب، تسقط حق الأمة في اختيار من يحكمها، وتسلبها تلك السلطة التي بها تكون حرة في اختيارها، فالمتغلب لا يتسلم السلطة بتخويل من الأمة، وإنما يسطو عليها سطوا، بعد أن ينصب نفسه رغما عن الأمة، ومن غير مشورتها ولا تخويلها، فتصبح الأمة مجبرة على أمر لم يكن لها فيه رأي ولا تدبير.
من الواضح أن تلك الصورة الواقعية تتعارض مع شروط إسناد السلطة، وبناء الشرعية السياسية وفقا للأحكام الشرعية المقررة في نموذج الخلافة الراشدة، والتي تعتبر التطبيق المثالي لأصول الدين المنزل في الشأن السياسي، وإدارة شؤون الأمة، وفقه السلطة والحكم، فما الذي جعل فقهاء الأمة حينذاك يوافقون على إسقاط سلطة الأمة، ويتجاوزون إسناد السلطة عن طريق الشورى، والقبول بولاية المتغلب؟
تلك القضية كانت مدار بحث متأنٍ وعميق في كتاب "مفهوم الدولة الإسلامية.. أزمة الأسس وحتمية الحداثة" للمفكر المغربي امحمد جبرون، وقد قارب المسألة من خلال الفكر التاريخي، ومنطق التاريخ، إذ إن التحول الكبير في نظام الحكم، ونقله من نموذج الخلافة الراشدة، إلى نموذج ولاية المتغلب، مع قرب العهد به، لا يمكن تفسيره وفهمه إلا باستحضار السياقات والشروط التاريخية، التي وجد الفقهاء أنفسهم معها في حالة اضطرار للقبول بالمستجدات الطارئة، فلم يعد ذلك النموذج الراشدي قابلا للتطبيق نظرا لتغير الزمان، وطروء وقائع جديدة على حياة المسلمين بمختلف مناحيها.
وباستحضار الأحداث التي وقعت في السنوات الأخيرة من ولاية أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله، وما حدث من فتن عاصفة آلت إلى اغتياله، وما تبعها من اضطرابات شديدة بين المسلمين، وما أفضت به إلى الاقتتال بين أهل الشام بقيادة معاوية بن أبي سفيان، وأهل العراق بقيادة علي بن أبي طالب، في موقعة صفين، وما سبقها في موقعة الجمل، وما آلت إليه الأمور من اغتيال أمير المؤمنين على بن أبي طالب؛ فإن واقع الأمة لم يعد كما كان عليه في هدوئه واستقراره إبان الخلفاء الراشدين.
فما كان ميسورا في تلك المرحلة، نظرا لمحدودية المساحة الجغرافية للمدينة المنورة، وقرب عهد الناس بهدايات النبوة والرسالة، ومعرفة المسلمين بعضهم ببعض، من إسناد أمر اختيار ولاة الأمر للأمة أو من تنوبهم عنها، لم يعد كذلك في العصور التالية، بعد اتساع رقعة الأرض التي امتد إليها سلطان الإسلام، ودخول أمم وقبائل جديدة في الدين، ونزوع الناس وتطلعهم إلى تولي شؤون السلطة والحكم.
من المسلم به في الكتابات الإسلامية، توصيف تحول نظام الحكم بعد الخلافة الراشدة، بالملك العضوض (سلطة العصبية)، باعتباره انحرافا عن أصول الإسلام ومبادئه في الحكم، لكن المفكر المغربي جبرون اعتبر ذلك أمرا طبيعيا، وقع بالاستجابة للشروط التاريخية، وتكيف معها، وبرر سلوك الفقهاء باعترافهم بولاية المتغلب، وإضفاء الشرعية عليها، بأنه تفكير واقعي اضطروا معه للتنازل عن سلطة الأمة لصالح المحافظة على الجماعة، وتماسك الدولة وبقائها.
يقترب جبرون في تحليله ودفاعه عن ذلك التحول، مع ما قاله من قبل الشيخ محب الدين الخطيب، وهو يدافع عن فعل معاوية في اختياره لابنه يزيد لولاية العهد من بعده، لما غلب على ظنه وتقديره بأن اختياره ليزيد سيحظى بمؤازرة أهل الشوكة والعصبية، من شيوخ القبائل الكبرى ورجالاتها، ما يعني استقرار الحكم في ظل اضطرابات شديدة عصفت بالأمة الإسلامية بعد اغتيال الخليفتين الراشدين، عثمان وعلي.
في دفاعه عن بيعة يزيد التي قامت على ولاية العهد من أبيه في حال حياته، رأى المفكر المغربي امحمد جبرون، أن بيعة يزيد هي "الصورة المقبولة من أهل العصبية الذين سيدافعون عنها كخيار واقعي، رافضا في هذا السياق ما قيل أنها تمثل "شراهة سياسية ورغبة غير مشروعة في استئثار البيت الأموي بالسلطة دون سائر المسلمين".
ذلك النمط من التفكير والتعليل يدرس الأحداث التاريخية بمقدماتها ونتائجها في ظل سياقاتها التاريخية، بعيدا عن النزعة المثالية التي تتوهم إمكانية استمرارية نمط الخلافة الراشدة على صورته التي تمثل بها، لأن الشروط التاريخية الفاعلة والضاغطة لم تعد تسمح لذلك النموذج بالاستمرار والبقاء، فكان لزاما على فقهاء المسلمين أن يبحثوا عن نموذج يتكيف مع شروط الواقع في صورته المستجدة، والذي تجسد بموافقتهم على ولاية المتغلب، وولاية العهد.
لم يكن الفقهاء ليوافقوا على تلك النماذج المستحدثة لو أن الأمر بقي على طبيعته إبان مرحلة الخلافة الراشدة، لكن الظروف تغيرت، والنفوس تبدلت، فكان "عدول المسلمين عن تقاليد العهد الراشدي في البيعة، استجابة طبيعية للشروط التاريخية في تفاعلاتها ومآلاتها، وهو ما دفع الفقهاء إلى البحث عن صيغة فقهية تتكيف مع إكراهات التاريخ وشروطه، بعد أن باتت المحافظة على مبادئ الخلافة الراشدة (خاصة البيعة)، مستحيلة وغير ممكنة وفقا لتحليل وتعليل المفكر جبرون.
المصدر : http://assabeel.net/islam/item/164040-%D9%84%D9%85%D8%A7%D8%B0%D8%A7-%D8%AA%D9%86%D8%A7%D8%B2%D9%84-%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%82%D9%87%D8%A7%D8%A1-%D8%B9%D9%86-%D8%B3%D9%84%D8%B7%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%85%D8%A9-%D9%84%D8%B5%D8%A7%D9%84%D8%AD-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AA%D8%BA%D9%84%D8%A8%D8%9F
يقول الفقيه الحنبلي ابن قدامة المقدسي "ولو خرج رجل على الإمام فقهره وغلب الناس بسيفه حتى أقروا له وأذعنوا بطاعته وتابعوه، صار إماما يحرم قتاله، والخروج عليه، فإن عبد الملك بن مروان خرج على ابن الزبير، فقتله واستولى على البلاد وأهلها حتى بايعوه طوعا وكرها، فصار إماما يحرم الخروج عليه، وذلك لما في الخروج عليه من شق عصا المسلمين، وإراقة دمائهم وذهاب أموالهم".
لكن إضفاء الشرعية على ولاية المتغلب، تسقط حق الأمة في اختيار من يحكمها، وتسلبها تلك السلطة التي بها تكون حرة في اختيارها، فالمتغلب لا يتسلم السلطة بتخويل من الأمة، وإنما يسطو عليها سطوا، بعد أن ينصب نفسه رغما عن الأمة، ومن غير مشورتها ولا تخويلها، فتصبح الأمة مجبرة على أمر لم يكن لها فيه رأي ولا تدبير.
من الواضح أن تلك الصورة الواقعية تتعارض مع شروط إسناد السلطة، وبناء الشرعية السياسية وفقا للأحكام الشرعية المقررة في نموذج الخلافة الراشدة، والتي تعتبر التطبيق المثالي لأصول الدين المنزل في الشأن السياسي، وإدارة شؤون الأمة، وفقه السلطة والحكم، فما الذي جعل فقهاء الأمة حينذاك يوافقون على إسقاط سلطة الأمة، ويتجاوزون إسناد السلطة عن طريق الشورى، والقبول بولاية المتغلب؟
تلك القضية كانت مدار بحث متأنٍ وعميق في كتاب "مفهوم الدولة الإسلامية.. أزمة الأسس وحتمية الحداثة" للمفكر المغربي امحمد جبرون، وقد قارب المسألة من خلال الفكر التاريخي، ومنطق التاريخ، إذ إن التحول الكبير في نظام الحكم، ونقله من نموذج الخلافة الراشدة، إلى نموذج ولاية المتغلب، مع قرب العهد به، لا يمكن تفسيره وفهمه إلا باستحضار السياقات والشروط التاريخية، التي وجد الفقهاء أنفسهم معها في حالة اضطرار للقبول بالمستجدات الطارئة، فلم يعد ذلك النموذج الراشدي قابلا للتطبيق نظرا لتغير الزمان، وطروء وقائع جديدة على حياة المسلمين بمختلف مناحيها.
وباستحضار الأحداث التي وقعت في السنوات الأخيرة من ولاية أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله، وما حدث من فتن عاصفة آلت إلى اغتياله، وما تبعها من اضطرابات شديدة بين المسلمين، وما أفضت به إلى الاقتتال بين أهل الشام بقيادة معاوية بن أبي سفيان، وأهل العراق بقيادة علي بن أبي طالب، في موقعة صفين، وما سبقها في موقعة الجمل، وما آلت إليه الأمور من اغتيال أمير المؤمنين على بن أبي طالب؛ فإن واقع الأمة لم يعد كما كان عليه في هدوئه واستقراره إبان الخلفاء الراشدين.
فما كان ميسورا في تلك المرحلة، نظرا لمحدودية المساحة الجغرافية للمدينة المنورة، وقرب عهد الناس بهدايات النبوة والرسالة، ومعرفة المسلمين بعضهم ببعض، من إسناد أمر اختيار ولاة الأمر للأمة أو من تنوبهم عنها، لم يعد كذلك في العصور التالية، بعد اتساع رقعة الأرض التي امتد إليها سلطان الإسلام، ودخول أمم وقبائل جديدة في الدين، ونزوع الناس وتطلعهم إلى تولي شؤون السلطة والحكم.
من المسلم به في الكتابات الإسلامية، توصيف تحول نظام الحكم بعد الخلافة الراشدة، بالملك العضوض (سلطة العصبية)، باعتباره انحرافا عن أصول الإسلام ومبادئه في الحكم، لكن المفكر المغربي جبرون اعتبر ذلك أمرا طبيعيا، وقع بالاستجابة للشروط التاريخية، وتكيف معها، وبرر سلوك الفقهاء باعترافهم بولاية المتغلب، وإضفاء الشرعية عليها، بأنه تفكير واقعي اضطروا معه للتنازل عن سلطة الأمة لصالح المحافظة على الجماعة، وتماسك الدولة وبقائها.
يقترب جبرون في تحليله ودفاعه عن ذلك التحول، مع ما قاله من قبل الشيخ محب الدين الخطيب، وهو يدافع عن فعل معاوية في اختياره لابنه يزيد لولاية العهد من بعده، لما غلب على ظنه وتقديره بأن اختياره ليزيد سيحظى بمؤازرة أهل الشوكة والعصبية، من شيوخ القبائل الكبرى ورجالاتها، ما يعني استقرار الحكم في ظل اضطرابات شديدة عصفت بالأمة الإسلامية بعد اغتيال الخليفتين الراشدين، عثمان وعلي.
في دفاعه عن بيعة يزيد التي قامت على ولاية العهد من أبيه في حال حياته، رأى المفكر المغربي امحمد جبرون، أن بيعة يزيد هي "الصورة المقبولة من أهل العصبية الذين سيدافعون عنها كخيار واقعي، رافضا في هذا السياق ما قيل أنها تمثل "شراهة سياسية ورغبة غير مشروعة في استئثار البيت الأموي بالسلطة دون سائر المسلمين".
ذلك النمط من التفكير والتعليل يدرس الأحداث التاريخية بمقدماتها ونتائجها في ظل سياقاتها التاريخية، بعيدا عن النزعة المثالية التي تتوهم إمكانية استمرارية نمط الخلافة الراشدة على صورته التي تمثل بها، لأن الشروط التاريخية الفاعلة والضاغطة لم تعد تسمح لذلك النموذج بالاستمرار والبقاء، فكان لزاما على فقهاء المسلمين أن يبحثوا عن نموذج يتكيف مع شروط الواقع في صورته المستجدة، والذي تجسد بموافقتهم على ولاية المتغلب، وولاية العهد.
لم يكن الفقهاء ليوافقوا على تلك النماذج المستحدثة لو أن الأمر بقي على طبيعته إبان مرحلة الخلافة الراشدة، لكن الظروف تغيرت، والنفوس تبدلت، فكان "عدول المسلمين عن تقاليد العهد الراشدي في البيعة، استجابة طبيعية للشروط التاريخية في تفاعلاتها ومآلاتها، وهو ما دفع الفقهاء إلى البحث عن صيغة فقهية تتكيف مع إكراهات التاريخ وشروطه، بعد أن باتت المحافظة على مبادئ الخلافة الراشدة (خاصة البيعة)، مستحيلة وغير ممكنة وفقا لتحليل وتعليل المفكر جبرون.
المصدر : http://assabeel.net/islam/item/164040-%D9%84%D9%85%D8%A7%D8%B0%D8%A7-%D8%AA%D9%86%D8%A7%D8%B2%D9%84-%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%82%D9%87%D8%A7%D8%A1-%D8%B9%D9%86-%D8%B3%D9%84%D8%B7%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%85%D8%A9-%D9%84%D8%B5%D8%A7%D9%84%D8%AD-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AA%D8%BA%D9%84%D8%A8%D8%9F
مواضيع مماثلة
للمشاركة انت بحاجه الى تسجيل الدخول او التسجيل
يجب ان تعرف نفسك بتسجيل الدخول او بالاشتراك معنا للمشاركة
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى